الاثنين، 12 سبتمبر 2016
الاثنين، 29 أغسطس 2016
عن مفهوم التعايش
ورد في وثيقة المدينة التي أصدرها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) عندما وصل المدينة بند يقول (وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه)، ويعني أنه إذا ما أجرم شخص من طائفة ما تعيش مع المسلمين، فإنه يحاسب وحده دون بقية أبناء طائفته، فلا يؤخذ الكل بجريرة شخص. وهذا البند يعطينا درسا هاما في التعايش، كما يعطي غير المسلمين أيضا دروسا في التعامل مع الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، وتعاني بين فترة وأخرى من ردود الفعل الرسمية والشعبية التي تحصل بعد العمليات الإرهابية هناك (من مضايقات أو اعتقالات أو إغلاق مساجد) رغم أنها تنفذ من قبل أفراد، لكن ردود الأفعال هذه (في بعض الأحيان) تشمل جميع المسلمين دون تمييز.
ويعتبر بند (وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه) واحدا من بين أكثر من خمسين بندا مثل دستورا لمجتمع المدينة، يعزز حالة التسامح والتعايش والمحبة والإخاء بين أبنائه ودون أن يقوم بإلغاء وقائع الأمور والحالة القائمة فيه. فالمدينة التي كان يعيش فيها المشرك والمنافق واليهودي إلى جانب المسلم، لم يتم طرد المخالفين فيها ولم يتم إجبارهم على الدخول في الإسلام على الرغم من قدرة المسلمين على ذلك في فترات عديدة.
ويعد التوقيع على صحيفة المدينة مع غير المسلمين ومنهم يهود المدينة (وهي أول وثيقة توقعها الدولة الإسلامية مع طائفة أخرى غير مسلمة) نموذجا يؤسس للتعايش السلمي مع الآخر، ويقوم بضبط إيقاع العلاقة بين مختلف ديانات مجتمع يثرب بما يضمن جميع حقوقهم المدنية. وتضمن الصحيفة الحرية الدينية لليهود دون إجبارهم على ترك دينهم كما تنص على ذلك الفقرة التي تقول (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم)، وهو ما يضمن لهم الحرية العقائدية وحرية التعبير عن آرائهم ودون أن يؤثر ذلك على حريتهم المالية (وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم). لكن في مقابل ذلك هناك تأكيد على الدفاع عن الوطن الكبير وهو مجتمع المدينة وذلك في ظل المواطنة الحقيقية، وهو دفاع بكل المفردات ماليا وعسكريا (وإن بينهم النصر على مَنْ حارب أهل هذه الصحيفة)، (وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم)، (وأن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)، وعدم مساعدة أو دعم قريش في أي نشاط معاد مهما كان.
وبهذه البنود استطاعت الصحيفة أن تذيب الفوارق بين المسلمين وغيرهم من مواطني المدينة، وتعزز من حالة التعايش بينهم، وأن تصهرهم في بوتقة واحدة هي بوتقة المواطنة، وهي الميزان الدقيق للفروقات بين من يعيش تحت كنف الدولة الإسلامية التي لا تشترط على الآخر ترك موقعه الأيديولوجي مهما كان شرط احترامه لضوابط وقوانين الكيان الإسلامي.
نشر في جريدة اليوم - أغسطس 5, 2016
بين التعايش وأكل الميتة
يعتبر البعض أن قبوله التعايش مع طرف أو أطراف أخرى هو تفضل منه أو اضطرار لذلك، وإلا فإن الأصل هو الصدام معهم أو إبعادهم أو إجبارهم على الاقتناع بآرائه. لكن مثل هذا الرأي لا يصمد أمام امتحان التاريخ والجغرافيا وحتى الدين. ذلك أن التعايش تم إثبات نجاعته تاريخيا في منع الاحتراب والاقتتال في العالم وإخماد أي محاولة لذلك. كما أنه جغرافيا يعتبر «أس» الشراكة الوطنية والتنمية المستدامة في أي بلد، وبدونه يغدو الهدم بديلا عن البناء. أما دينيا فإن الإسلام دافع منذ البداية عن حرية الآخر في اختيار عقيدته بنصوص متعددة وبمختلف التعبيرات.
بداية، يجب أن نقر بأن التعايش مع الآخر -مهما كان- لا يعني ألا يقوم المرء أو الجماعة بالتبشير بآرائهم ومحاولة إقناع الآخر بها، لأن ذلك من طبيعة الإنسان الذي يعتبر أن أفكاره وآراءه ومقتنعاته هي الحق، وأنها ستوصله إلى السعادة أو إلى الجنة، وهو لهذا لا يريد أن يحرم الآخرين منها. لكن ينبغي أن يبقى حبل العلاقة والمودة والشراكة هو بيضة القبان في هذا السعي، مع الاحتفاظ بكرامة وإنسانية الإنسان مهما كانت أفكاره واتجاهاته.
وتعلمنا عبر التاريخ أن أغلب الناس إنما اعتنقوا دياناتهم لأنهم ولدوا في محيط يدين بها وليس لأنهم بحثوا وقرأوا ثم اختاروا، وهم غالبا ما يتمسكون بدياناتهم أو معتقداتهم حتى وفاتهم. وعندما تحاول جماعة قوية أن تفرض أفكارها ومعتقداتها عليهم تقع الحرب الكلامية في البداية ثم المواجهة. ولنا في الحروب الدينية والمذهبية في أوروبا مثل حرب الثلاثين عاما (1618 - 1648) خير شاهد، حيث سقط خلالها ملايين الضحايا الذين كان هدفهم إقناع آخرين بأفكارهم، كانت في الغالب حربا بين الكاثوليك والبروتستانت أو تحت مسماهما فقط. وقد هدم في الحرب بالكامل آلاف المدن والقرى وانخفضت أعداد السكان في بعض دول أوروبا آنذاك بمقدار الثلث كما انخفضت أعداد الرجال إلى النصف وهو ما اضطرهم إلى تشريع تعدد الزوجات، لكنهم في النهاية توصلوا إلى قناعات بأن تغيير معتقدات الآخرين بالقوة غير ممكن، وأن الحل هو في قبول الآخر والتعايش معه.
وإذا كانت هذه القناعة بعدم دخول حروب تقوم على أسس أيديولوجية في قرون ماضية كانت الأسلحة فيها متواضعة الإمكانات، ولا تزيد عن كونها لعب أطفال مقارنة بالأسلحة الموجودة حاليا، فكيف بنا اليوم حيث يستطيع مخزون العالم من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية تدمير الكرة الأرضية عدة مئات من المرات بضغطات أزرار يكون وقودها المدنيين بالدرجة الأساس.
هنا، وفي هذا المقام، لا يعتبر التعايش مجرد أن تقبل العيش إلى جانب من تختلف معه معتقدا في قرارة نفسك أنك بذلك تتفضل عليه وتعطيه ما لا يستحق، بل هو قبول حقيقي ونهائي بالآخر المختلف مع وجود المساواة مؤصلة ومشرعة بقوانين، ومشاركته في كل ما يملكه الأنا وليس مجرد ديكور مكمل لمجموعة من المناقبيات المفترضة، أو اضطرارا إليه كأكل الميتة للجائع المضطر.
نشر في جريدة اليوم - أغسطس 12, 2016
الجغرافيا والتعايش
للجغرافيا خصوصية مميزة فيما يتعلق بالتعايش؛ كونها تعني هنا العيش في وطن واحد يظل الجميع لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، كما تعني فيما تعنيه أن تكون المواطنة الميزان الأساس لمن يعيش فيه، لذا فإنه وفي ظل التعايش ينبغي أن تتوارى جميع العناوين الأخرى دينية كانت أو مذهبية أو أيديولوجية أو فكرية ليبقى عنوان واحد وهو الوطن والمواطنة، وما يستتبعه من خضوع الجميع لحكم القانون.
ومن الأمور الهامة التي ينبغي أن تحكم هذه القيمة الحضارية تقنينها بمجموعة من التشريعات التي تصون بقاءها واستمراريتها، ذلك أنه وحسب التجارب البشرية في مختلف مناطق العالم، يتبين أن الناس يميلون إلى عدم الالتزام بأي سلوك جديد ما لم تكن في مقابله قوانين للثواب والعقاب.
وبالتأكيد هنا لا يمكن أن يقوم التعايش الوطني على القوة والإجبار والقسر، بل يجب أن يكون نابعا من قناعات راسخة لدى أبناء الوطن بالتعايش مهما اختلفوا في مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية وهو ما يجب أن تسبقه توعية على مختلف الصعد وبمختلف المستويات من أجل ترسيخ مفهوم التعايش لدى المواطنين بمختلف أعمارهم، بل إنه من الحري بالمواطنين أن يصلوا إلى قناعة بأن يبادروا إلى التفاخر بتنوع أطيافهم وتوجهاتهم، وأن يعتبروه مصدر قوة ومنعة لهم كما هو الحال في الدول المتقدمة.
إن الخيار الآخر لإعلاء قيمة المواطنة هو الانقسام والتشظي والضعف والوهن الذي قد يصيب الوطن، وأي تصنيف داخل الوطن قائم على أساس أيديولوجي لا ينتج إلا مزيدا من التشبث بالخصوصية الأيديولوجية، على حساب القيمة العليا المفترضة وهي المواطنة، وفي المقابل بالطبع فإن على كل طيف فكري أو أيديولوجي في الوطن يجب أن يكون عنوانه الأساس هو الوطن والمواطنة وليس عناوينه الجانبية الخاصة، لأن الوطن هو الانتماء الأساس وليس تلك العناوين.
وحتى يكون التعايش خبزا يوميا للمواطن السعودي - الذي يصادف كل يوم مقيمين من أديان متنوعة في ظل وجود ملايين المقيمين في المملكة من مختلف دول العالم بالإضافة إلى التنوع الداخلي - فلابد له من معرفة حتمية وضرورة التعايش، وهو ما يحتاج إلى مران اجتماعي طويل على ذلك يبدأ من المناهج ولا ينتهي بوسائل الإعلام مرورا بقوانين تحافظ على قطار التعايش في سكة الوطن وتردع من يحاول أن يخرجه منها.
وما يعزز حالة التعايش المنشودة هو نفسه ما حصل في صدر الإسلام، حيث لم تغر قوة المسلمين في المدينة بالتنمر على ضعافها، ولم تمنعهم كذلك من إرسال المساعدات إلى أعدائهم في مكة المكرمة قبل فتحها عندما أصابتهم مجاعة.
كما أن الكثرة العددية في المفهوم الإسلامي لا تغير من القناعة بضرورة التعايش ولا تحرف بوصلة الصراع، كما لا تبدل نمط التعامل مع الآخر، ولا يجب أن تدفع نحو قسر الآخرين على اعتناق ما لا يرغبون فيه أو الضغط عليهم لتغيير قناعاتهم، حيث التعايش هو قبول الآخر المختلف بما هو وكما هو.
نشرت في جريدة اليوم - أغسطس 19, 2016
التعايش بين الانصهار وصحن السلطة - 1
تعتبر التجربة الأمريكية في التعايش من التجارب التي تستحق التأمل والبحث بسبب ما رافقها من مراحل تراوحت ما بين القتل والدموية إلى الاعتراف بتنوع الأطياف والأعراق والخصوصيات. وبدأت الولايات المتحدة - وهي الدولة الحديثة في مفهوم التاريخ - بتثبيت أقدامها على الأرض الجديدة بمحاولة إخراج سكان البلاد الأصليين منها (الهنود الحمر) أو تذويبهم في الثقافة الأمريكية الجديدة أو قتلهم. فالبلاد التي وصلها البحارة كريستوفر كولومبوس في العام 1492م (ظن في البداية أنها الهند ومات قبل أن يكتشف الحقيقة) كانت تسكنها مجموعات بشرية انعزلت عن العالم وبقيت متخلفة عن ركب التطور العالمي بعادات وتقاليد قديمة. وقد بدأ يهاجر إليها أعداد كبيرة من الأوروبيين ومن مناطق أخرى في العالم أعجبتهم هذه القارة بما تحويه من أرض شاسعة ومناخ معتدل وثروات كبيرة. وبعد أن استوطنوها توهموا أن الأرض تضيق بهم فقاموا بتهجير أعداد كبيرة من سكانها الأصليين من مناطقهم إلى مناطق أخرى رافق ذلك كثير من الضغط وقليل من الإغراء المالي، ومن يرفض كان مصيره القتل المباشر أو غير المباشر. بعدها قاموا بانتهاج أسلوب سمي (وعاء الانصهار) (Melting Pot The) الذي يعني تذويب جميع الأعراق والأديان والمذاهب والجنسيات المختلفة في ثقافة واحدة هي الثقافة الأمريكية بحيث يكون ذلك مزيجا متجانسا بعد التخلي عن خصوصياتهم. وقد أباد الأمريكان ملايين الهنود الحمر في حملتهم هذه - وفي رغبتهم في الاستيلاء على أراض جديدة - متفوقين عليهم بأسلحتهم النوعية، بينما قاموا بعزل البقية في مناطق محددة، واضعين خطة طويلة الأمد لتلقين أطفالهم الثقافة الأمريكية الجديدة بهدف إذابتهم وصهرهم في المجتمع الأمريكي الجديد. كما قام الأمريكان باستخدام أسلوب الاستيعاب هذا مع المهاجرين الأجانب الذين كانوا يفدون إليها باستمرار من مختلف قارات العالم رغبة في حياة أفضل.
وقد استخدم تعبير (وعاء الانصهار) في الولايات المتحدة على نطاق واسع جدا وتم التسويق له بشكل كبير من أجل تشجيع جميع مهاجري الولايات المتحدة على الذوبان في ثقافة واحدة لا مكان فيها للخصوصيات الأخرى دينية كانت أو عرقية أو مذهبية إلا في نطاق ضيق جدا. ورغم أن تطبيق فكرة ( وعاء الانصهار) بدأ في القرن الثامن عشر الميلادي إلا أن ما زاد من شعبية المصطلح وانتشاره عمل مسرحية بهذا الاسم في واشنطن في العام 1908م من قبل كاتب بريطاني صور فيها حياة مهاجر يهودي من أصل روسي نجا من حملة إبادة وقعت في بلاده، ويدعو في المسرحية - التي امتدحها الرئيس الأمريكي روزفلت - إلى الذوبان في المجتمع الجديد.
وقد تبين للشعب الأمريكي لاحقا أن صهر جميع الثقافات وتحويلها إلى ثقافة واحدة أمر صعب، وربما زاد من تمسك كل مجموعة عرقية أو دينية بعاداتها وتقاليدها أو بدينها. وحتى لو كان ذلك ممكنا فإنه غير مستحسن من الناحية الإنسانية، حيث توجهوا بعدها إلى نظرية أخرى تسمى وعاء أو صحن السلطة
(Salad Bowl)، تقضي بأن يختلط الشعب الأمريكي معا على أن يبقى لكل عرق أو ديانة أو جنسية تمايزه الخاص.
نشرت في جريدة اليوم - أغسطس 29, 2016
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)