الاثنين، 29 أغسطس 2016

بين التعايش وأكل الميتة

يعتبر البعض أن قبوله التعايش مع طرف أو أطراف أخرى هو تفضل منه أو اضطرار لذلك، وإلا فإن الأصل هو الصدام معهم أو إبعادهم أو إجبارهم على الاقتناع بآرائه. لكن مثل هذا الرأي لا يصمد أمام امتحان التاريخ والجغرافيا وحتى الدين. ذلك أن التعايش تم إثبات نجاعته تاريخيا في منع الاحتراب والاقتتال في العالم وإخماد أي محاولة لذلك. كما أنه جغرافيا يعتبر «أس» الشراكة الوطنية والتنمية المستدامة في أي بلد، وبدونه يغدو الهدم بديلا عن البناء. أما دينيا فإن الإسلام دافع منذ البداية عن حرية الآخر في اختيار عقيدته بنصوص متعددة وبمختلف التعبيرات.
بداية، يجب أن نقر بأن التعايش مع الآخر -مهما كان- لا يعني ألا يقوم المرء أو الجماعة بالتبشير بآرائهم ومحاولة إقناع الآخر بها، لأن ذلك من طبيعة الإنسان الذي يعتبر أن أفكاره وآراءه ومقتنعاته هي الحق، وأنها ستوصله إلى السعادة أو إلى الجنة، وهو لهذا لا يريد أن يحرم الآخرين منها. لكن ينبغي أن يبقى حبل العلاقة والمودة والشراكة هو بيضة القبان في هذا السعي، مع الاحتفاظ بكرامة وإنسانية الإنسان مهما كانت أفكاره واتجاهاته.
وتعلمنا عبر التاريخ أن أغلب الناس إنما اعتنقوا دياناتهم لأنهم ولدوا في محيط يدين بها وليس لأنهم بحثوا وقرأوا ثم اختاروا، وهم غالبا ما يتمسكون بدياناتهم أو معتقداتهم حتى وفاتهم. وعندما تحاول جماعة قوية أن تفرض أفكارها ومعتقداتها عليهم تقع الحرب الكلامية في البداية ثم المواجهة. ولنا في الحروب الدينية والمذهبية في أوروبا مثل حرب الثلاثين عاما (1618 - 1648) خير شاهد، حيث سقط خلالها ملايين الضحايا الذين كان هدفهم إقناع آخرين بأفكارهم، كانت في الغالب حربا بين الكاثوليك والبروتستانت أو تحت مسماهما فقط. وقد هدم في الحرب بالكامل آلاف المدن والقرى وانخفضت أعداد السكان في بعض دول أوروبا آنذاك بمقدار الثلث كما انخفضت أعداد الرجال إلى النصف وهو ما اضطرهم إلى تشريع تعدد الزوجات، لكنهم في النهاية توصلوا إلى قناعات بأن تغيير معتقدات الآخرين بالقوة غير ممكن، وأن الحل هو في قبول الآخر والتعايش معه.
وإذا كانت هذه القناعة بعدم دخول حروب تقوم على أسس أيديولوجية في قرون ماضية كانت الأسلحة فيها متواضعة الإمكانات، ولا تزيد عن كونها لعب أطفال مقارنة بالأسلحة الموجودة حاليا، فكيف بنا اليوم حيث يستطيع مخزون العالم من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية تدمير الكرة الأرضية عدة مئات من المرات بضغطات أزرار يكون وقودها المدنيين بالدرجة الأساس.
هنا، وفي هذا المقام، لا يعتبر التعايش مجرد أن تقبل العيش إلى جانب من تختلف معه معتقدا في قرارة نفسك أنك بذلك تتفضل عليه وتعطيه ما لا يستحق، بل هو قبول حقيقي ونهائي بالآخر المختلف مع وجود المساواة مؤصلة ومشرعة بقوانين، ومشاركته في كل ما يملكه الأنا وليس مجرد ديكور مكمل لمجموعة من المناقبيات المفترضة، أو اضطرارا إليه كأكل الميتة للجائع المضطر.

نشر في جريدة اليوم - أغسطس 12, 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق