السبت، 26 مارس 2022

التعايش بين الانصهار، وصحن السلطة (2)

 يوسف أحمد الحسن 

وبعد أن تمَّت لسنوات طوال في الولايات المتحدة، تجربة فكرة وعاء الانصهار (The melting pot)، تمَّ التحول بالتدريج إلى فكرة أخرى أكثر واقعية وإنسانية وقابلية للتطبيق، وهي فكرة صحن (وعاء) السلطة (The salad bowl)، وتقوم هذه الفكرة، كما يدل عليها اسمها، على أن تبقى مكونات المجتمع الأمريكي من مختلف الأعراق، والأديان، والمذاهب، والثقافات جنبًا إلى جنب محتفظة بخصوصياتها دون أن تنصهر في ثقافة واحدة كما هو الحال في وجود مكونات مختلفة لطبق السلطة في صحن واحد بحيث يمكن تمييز كل منها عند النظر إليها دون أن تختلط معًا، وتتضمن هذه الفكرة أيضًا أن تكون هناك هوية مشتركة لجميع هذا الخليط وهي الهوية الأمريكية دون أن يتخلَّى جميع آحاد هذا الخليط عن خصوصياته، وهكذا فإن هذه النظرية لا تشترط أن تتخلَّى أي مجموعة عرقية أو دينية أو مذهبية داخل المجتمع الأمريكي عن ثقافتها الخاصة حيث الحبل السري هنا هو المواطنة والولاء للوطن، ولم يتم التحول نحو هذه النظرية بقرار رسمي أو بشكل فجائي، بل كانت حركة تدرجية حصلت بعد عملية نضوج فكري وإنساني جمعي تم التوصُّل إليها من قبل النخبة السياسية والثقافية والمؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني الأمريكي عبر فترة زمنية وذلك بعد اختمار الفكرة لديهم.

ورغم أن السود في الولايات المتحدة لم يكن يطبَّق عليهم مفهوم التعايش لفترات طويلة، وكانوا يعانون من التمييز العنصري؛ كونهم من أصول أفريقية، إلا أن نموذج صحن السلطة نجح معهم أيما نجاح، حتى لتجد في كل موقع حكومي أو خاص، هناك أمريكيين من أصول أفريقية إلى جانب آخرين من الصين واليابان وأوروبا، والشرق الأوسط، ومن شرق آسيا وأستراليا يتبوَّأُون أعلى المناصب بعضها حساس للغاية.

واليوم وبفضل هذه الفكرة، فإنَّ الأمريكي يعيش في بلاده ويعمل ويتنقل دون أن يسأله أحد عن أصله أو فصله أو دينه أو مذهبه، كما لا تتدخَّل هذه الأمور، من حيث المبدأ وبشكل عام، في الحصول على وظيفة، فالمواطن الأسود الذي كان يمنع من الاختلاط بنظيره الأبيض وكانت تخصص له مواقع خاصة في المطاعم والمرافق العامة ولا يسمح له بركوب الحافلات إلى جانب الأبيض، استطاع الحصول على حقوقه المدنية والسياسية كاملة والترشح إلى أي موقع سياسي، ثمَّ الوصول إلى منصب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وهو كله بفضل فكرة التعايش. 

وقد تمت حماية هذه الفكرة بمجموعة من القوانين التي تعاقب من يتعدَّى عليها، حيث تؤكِّد هذه القوانين على إعلاء قيمة المواطنة أمام جميع الهويات والخصوصيات الأخرى.

نعم يقر الجميع هناك بأنَّ ثمَّة اختلافًا في التوجهات الفكرية والثقافية، وحتى في الطقوس الدينية لدى مختلف الإثنيَّات، لكنَّهم يقومون بحماية هذا الاختلاف، ويشدِّدون على أهمية أن يكون المعيار الأساس لتقييم المواطن ووضعه في المكان المناسب هو إيمانه بالمواطنة وبالعمل من أجل رفعة الولايات المتحدة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق