السبت، 26 مارس 2022

عواصف تهزُّ الحوار (3)

يوسف أحمد الحسن 

يكفي أن يرى المسيحي في مدينة الموصل العراقية حرف النون مكتوبًا على منزله حتى يصاب بالذعر وينهار من هول الصدمة.

فهذه المدينة التي دخلتها قوات (داعش) يوم العاشر من يونيو 2014م، وأعلنت فيها الخلافة الإسلامية، توالت على سكَّانها القرارات الظالمة، فقد تم قطع التموين الغذائي عن مسيحييها، ثمَّ إيقاف رواتبهم وإصدار تحذيرات لهم بالدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو القتل، وبعدها تم تخييرهم بين مغادرة المدينة أو القتل، وأخيرًا كتابة حرف النون على كل منزل لهم دلالة على كون مالكه من النصارى، وأنه تم تحويل ملكيته إلى عقارات الدولة الإسلامية ( ... ).

وقد كان هذا نموذجًا فقط لما حصل للمسيحيين في بعض الدول العربية التي انفلت فيها الأمن، وحصل مثله في مدن عراقية أخرى، وفي سوريا وفي بعض الأحداث الطائفية في مصر بصورة أصغر.

فما يقرب من خمسة عشر مليون مسيحي في العالم العربي حاليًّا، من مجموع (22) مليون مسيحي عربي في العالم عاشوا في كنف الدول العربية، وأكثر من (150) مليون على الأقل، موجودون في العالم الإسلامي، لم يعانوا تاريخيًّا من اضطهاد على أساس ديني، بل كانوا في أغلب الأوقات يعيشون كمواطنين من الدرجة الأولى إلا في حالات استثنائية لا يمكن تعميمها، هذا في الوقت الذي كان إخوانهم في الدين يعانون من محاكم التفتيش في أوربا القرون الوسطى، وفي أصعب الظروف التي مرَّت بالعالم العربي كان المسيحيون يعيشون حياتهم الطبيعية متمتعين بكامل حقوقهم الدينية والوطنية والمدنية.

لكن السنوات الست الأخيرة حملت معها أحداثًا جسامًا بالنسبة لهم هدَّدت وجودهم وحياتهم في البلدان العربية، رغم كونهم جزءًا لا يتجزأ من مواطنيها، ساهموا في بنائها وتطويرها، بل والدفاع عنها في وجه المخاطر التي أحدقت بها، فقد كانت أحداث الربيع العربي في بعض الدول العربية نذير شؤم عليهم حيث وقع بهم الكثير من الظلم والتنكيل والتهجير وحتى القتل، حتى اقترب الوضع في بعض المناطق مما يمكن تسميته عملية تفريغ كاملة من المسيحيين.

والخطير في مشكلة تهجير المسيحيين أنها لا تقف عند كونها مشكلة إنسانية فقط، بل تتعدَّاها إلى أنها تتنكر لهويتهم الوطنية والقومية وتقذف بهم إلى خارج أوطانهم بعد عملية قذرة تقوم على تصنيف المواطنين على أساس ديني، وهو نفسه الأمر الذي يقدِّم تبريرًا سهلًا لإسرائيل واليمين الصهيوني فيها، والذي يدعو إلى عملية فرز على أساس ديني ينتهي بجعل إسرائيل دولة يهودية خالصة بعد إخراج العرب منها، ورغم أن هذه الممارسات لا تمثل الإسلام ولا المسلمين، فإنها بالتأكيد تؤثِّر سلبًا علينا كمسلمين، وتعزز من الصورة النمطية عنا من نبذ للآخر ومهاجمته وعدم تحمل وجوده معنا، بل وجوده في الحياة.

إنَّ إسلام (لا إكراه في الدين) يكره مضايقة أهل الكتاب، بل إنَّ مجرَّد السكوت عن أي إساءة بحقهم تعد بمثابة القبول بها، بل والمشاركة فيها.

ولا يزال الملايين من المسيحيين العرب متمسِّكين بالبقاء في بلدانهم الأصلية رغم المغريات الكبيرة التي قدمت وتقدم لهم من كثير من الدول الغربية، إلى مستوى يشكِّك في نوايا بعض هذه الدول ومصلحتها في تفريغ الدول العربية من المسيحيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق