تاريخ المسحوقين.. التاريخ الشفهي
يوسف الحسن
يعتبر التاريخ الشفهي أحدَ الروافد الهامَّة في التاريخ
البشري؛ فهذا النوع من التاريخ يُعرَف بأنه: (تسجيل وحفظ وتفسير المعلومات
التاريخية لأشخاص مهمِّين، أو أشخاص عاصروا أحداثًا هامَّة اعتمادًا على خبراتهم
الشخصية، أو ما سمعوه من أحداث)، أو بمعنى أشمل؛ إنه التاريخ المروي عن
الآخرين.
ورغم تأخُّر الاهتمام بهذا الجانب لحقب تاريخية طويلة،
إلا أن التطورات العلمية والتقنية – خاصة أجهزة التسجيل والحاسبات بأنواعها -
ساهمت في إعطائه دفعًا مهمًّا وتطويره خلال العقود الأخيرة.
وحسب التاريخ المكتوب للبدايات المسجلة للتاريخ الشفهي،
فقد كانت جامعة كولومبيا السبَّاقة في هذا المجال في عام1948م حين أطلقت مشروعًا
لتدوين التاريخ الشفهي لمجموعة من الشخصيات الأمريكية؛ بتسجيلهم على أشرطة تسجيل،
وذلك على يد المؤرخ في الجامعة (الان نيفنز)، وقد سبق جامعة كولومبيا إدارة
رسمية أمريكية في عام 1935م سميت Work Progress Administration (إدارة تطوير الأعمال)، حيث قامت بإرسال مجموعات من المحاورين لعمل
جولات ميدانيَّة على الناس وطرح أسئلة عليهم حول موضوعات محددة؛ مثل الحرب الأهلية
الأمريكية، والعبودية في أمريكا، لكنَّ البعض لا يعتبر هذه الإدارة من مؤسسي -أو
رواد- التاريخ الشفهي على اعتبار أهدافها الأساسية كانت بعيدة عن تدوين التاريخ
الشفهي نفسه؛ فقد كانت تهدف -بين أمور أخرى- إلى المساهمة في حل مشكلة الكساد
الاقتصادي التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي خمسينات وستينات القرن العشرين قام عدد من المؤرخين
البريطانيين بتسجيل جانب من التاريخ الشفهي للطبقة العاملة، ثم تم إنشاء جمعية
التاريخ الشفهي البريطانية في سبعينات ذلك القرن على يد بول طومسون.
كما قام الأمريكيون بتأسيس جمعية التاريخ الشفهي في
العام 1967، وقبل هؤلاء -في عام 1942م- قام أحد المؤرخين، وهو (جوزيف غولد) بعملية
جمع التاريخ الشفهي لذلك الزمان، ورغم أنه لم يقم بإنتاج أو نشر هذا التاريخ إلا
أنه أعطى نوعا من الشعبية والانتشار لمصطلح التاريخ الشفهي.
وقد عانى المهتمون بهذا النوع من التأريخ من مقاومة أو
رفض له من قبل عدد من الأكاديميين والمؤرخين لأسباب ليس أقلها أهمية عدم وجود سند
تاريخي تقليدي له؛ فقد اعتاد المؤرخون على نمط معين من المنهجية في بحوثهم
المرجعية كالإشارة إلى كتاب تاريخي، أو مجلة أو موسوعة للإشارة إلى حدث ما، مع ذكر
التفاصيل التوثيقية المعتادة في هكذا موارد.
واعتبر بعضهم أن الاعتماد على مراجعَ شفهيَّةٍ
خروجًا على ما اعتادوا عليه، وعلى المسار العلمي في الجانب التوثيقي للتاريخ،
وهناك من قال بأنه يمكن قبول ما يتم تدوينه من التاريخ الشفهي كمصدر مساعد أو
مكمل، وليس أساسيًّا في كتابة التاريخ. كما كان هناك من حصر الاعتماد عليه
في تدوين المجتمعات البدائية أو الأمية أو تاريخ الأقليات أو في تدوين الفولكلور
الشعبي لا أكثر، أو في حال فقدان الوثائق الأصلية لحدث ما.
كما إن هناك من تقبَّل تدوين التاريخ الشفهي، لكنه أبقى
الباب مفتوحًا أمام قبول أو رفض أي من الروايات التاريخية المنقولة شفهيًّا،
ونحاول - في هذه السطور - مناقشة بعض هذه الإشكالات:
أولاً- إن معظم كتب التاريخ المدونة والمنشورة هي
شفهيَّة في الأساس، لكنها تحولت إلى مدونة، بعد قيام أصحابها بتسطيرها وتحويلها
إلى مشاريع كتب أو مؤلفات بعد أن قاموا بجهود كبيرة لالتقاط معلوماتها من أفواه
الناس -أو كانوا شهودًا على بعض أحداثها في حالات أخرى- ليحولوها إلى كتب تاريخية.
وليس من الصحيح أن جميع المؤرخين قد عاصروا أو
حضروا -بشكل شخصي ومباشر- جميع الروايات التاريخية التي كتبوا عنها. وما أسلوب
(العنعنة) الذي كان، ولا يزال، مُتَّبعًا في كثير من كتب التاريخ العربية إلا
مثالاً جليًّا لذلك.
ثانياً- إن جزءًا كبيرًا من التاريخ الحقيقي للأمم هو
في الجانب الشفهي - والذي يهمله الكثير من الكتاب الذين حصروا التاريخ في الجنبة
السياسية لا أكثر - عبر تركيزهم على تاريخ الحكام، والخلفاء، ورؤساء الدول، والأمم
السابقة واللاحقة، وما يدور حولهم من أحداثٍ سياسية، أو حروب ومعارك، ولا يقومون
برصد أو توثيق ومعالجة ما يدور داخل المنازل والأحياء، أو فيما بين الناس وداخل
المجتمعات، أو ما يُسمَّى، حديثًا، (الشوارع الخلفية).
إن هذا الجانبَ من التاريخ لا يمكن التقليل من أهميته،
بل إنه قد يمثل، أحيانًا، التاريخ الحقيقي للأمم، وقد يكون تدوينًا لبداية إرهاصات
التغييرات المهمة التي تعصف بالمجتمعات، أو الحروب، والأحداث الكبيرة التي مرَّت
بالعالم في مختلف حِقب التاريخ.
إن هذه النوعية من المعلومات لا يمكن الحصول عليها من
قصور الخلفاء، ورؤساء الدول، والقادة التاريخيين، بل تختبئ في أفئدة سكان العشش،
وبيوت الصفيح، أو من يُسمَّون المسحوقين الذين قد لا يلتفت إليهم أحد، والذين قد
يُشكِّلون الوقودَ الحقيقيَّ لبعض الثورات، أو الانتفاضات، أو التغييرات الكبرى في
التاريخ البشري، وإهمال توثيق رواياتهم الشفوية سوف يشكل نقصًا في هذا التاريخ.
ثالثاً- إن هناك قسمًا من الشعوب، أو المجتمعات -
والذين يُسمَّون (المحجوبين عن التاريخ)، لا تستطيع كتابة تاريخها بنفسها لعدة
أسباب منها البدائية التي تعيشها، أو الأمية التي تطغى عليها، أو طبيعة الأعمال
التي تقوم بها؛ كعمال المناجم، والبسطاء من المزارعين، وقاطعي الأشجار، أو
الحرفيين التقليديين، ولذلك فإن هذا التاريخ الشفهي يسهم في توثيق هؤلاء، ويكشف
للبشرية جوانبَ ربما تبقى غائبة عن الوعي التاريخي لولا التاريخ الشفهي.
رابعاً- حتى مع ضعف موثوقية التاريخ الشفهي للأمم، أو
حتى انعدامها؛ فإنه ينبغي ترك المجال مفتوحًا للجميع للإدلاء بآرائهم، وسرد طريقة
روايتهم للأحداث التي عايشوها، مع فسح المجال للآخرين للرد عليهم، وهذه المنهجية
تسهم في تمحيص وإظهار رؤية دقيقة وشاملة لمختلِف الأحداث التاريخية، فحتى مع ظهور
بعض الروايات غير الصحيحة لبعض الأحداث؛ فإن ذلك ينبغي أن يدفع الباحثين للبحث في
دوافع هؤلاء لإظهار أقوالهم تلك.
كما يمكن اعتبار تضارب الروايات حول حدثٍ مَّا نوعًا من
تضارب المصالح، وانعكاسًا لصراع من نوعٍ مَّا؛ كالصراع الطبقي، أو العرقي، أو
القومي، أو الإقليمي في حقبة تاريخيةٍ مَّا، وهذه - بحد ذاتها - جزءٌ من التاريخ
الذي يجب أن يكتب.
إن لدينا -في تاريخنا العربي- من المسلمات ما تمَّ
التشكيكٌ فيه بشكلٍّ كامل، وهو ما لم يقلِّل من أهميته، وقيمته، وأبرز مثال على
ذلك التشكيك الذي حصل للشعر العربي الجاهلي، ونسبته إلى قائليه كونه يقع تحت تصنيف
التاريخ الشفهي لفترة زمنية محدَّدة على الأقل.
خامساً- يشكك البعض في مدى موثوقية التاريخ الشفهي من
ناحية تذكر - أو عدم تذكر - رواتها للأحداث بتفاصيلها؛ فالتاريخ الشفهي مرتهنٌ،
إلى حدٍّ كبيرٍ، بالذاكرة الشخصية للراوي، أو الرواة؛ حيث التناسب العكسي الذي
غالبًا مَّا يحصل بين الفاصل الزمني الذي يفصل الحدث، ووقت رواية الحدث، ودقة
الرواية، وهذا الإشكال حقيقي حتى بالنسبة للأحداث القريبة فكيف بالبعيدة؟
كما إنه وارد جدًّا حتى للمؤرخين، وكتاب التاريخ الذين
يؤرخون لأحداث عاشوها أو سمعوا بها.
إن الكثير من الأحداث التاريخية لم يتمَّ توثيقها، أو
تدوينها لأسباب متعددة؛ قد يكون منها خوف الناس من تأريخ تلك الفترة، أو حتى مجرد
الحديث عنها بسبب ظروف قمعية معينة يعيشها الناس، أو يتصورونها في أذهانهم على
الأقل لفترة زمنية معينة، حتى تتغير الظروف السياسية لديهم، مما يشجعهم على الحديث
الصريح عن تلك الحقبة.
كما إن وقوع الحروب والتخريب والتدمير المتعمد، أحيانا،
يتسبب في اندثار الكتب، والمؤلفات، والوثائق عن تلك الفترة، ويأتي التاريخ الشفهي
ليحل هذه الإشكالية، ويسدَّ هذه الثغرة في التاريخ البشري.
إن التقليل من أهمية التاريخ الشفهي قد يخرجنا من
إشكالية الثقة فيه، ليقحمنا في إشكاليات أخرى قد تكون أخطر، ومنها الاعتماد على
روايات الرحالة الأجانب الذين كانوا يجوبون بلاد العرب في فترات الانحطاط
التاريخي، مع ما يخالط هذه الروايات من نواقص، وسلبيات وأخطاء حتى في ذكر أسماء
المدن والقرى والبلدان العربية.
وعندما نتحدث، بشكل علمي، فإنه لا يمكننا التقليل من
أهمية هذا النوع من التاريخ ما دام موجودًا، مع الأخذ بتقاليد وأدوات وإجراءات
ومعايير هذا النوع من التاريخ، وهي أمور يتم تطبيقها حاليًّا في الغرب، وتم
الاتفاق حتى على إجراءات حقوق الملكية الفكرية لهذا النوع من التاريخ.
نعم يجب أن تخضع روايات التاريخ الشفهي للتمحيص
والغربلة، لكن لا يحسن الحطُّ من أي رواية أو قصة تاريخية، شفهية كانت أو مدونة،
ومهما قل شأن من قام بذكرها، أو أهميتها في السياق التاريخي العام، وذلك حفظا لها
من أن تُمحى من ذاكرة الزمن، وحفظًا لحقوق المسحوقين، أو المحجوبين عن التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق