السبت، 26 مارس 2022

المجلات الثقافية .. سؤال المستقبل

يوسف أحمد الحسن 

كما ينتظر الناس اليوم نزول منتج الكتروني جديد بشغف كبير ، كان أسلافهم قبل عقد أو اثنين ينتظرون كل شهر صدور عدد جديد من مجلتهم المفضلة لكي يشبعوا شغفهم الثقافي . ذلك أن المجلات الثقافية كانت البوابة الثقافية المتجددة شبه الوحيدة للمثقف أو من يطمح أن يكون كذلك . في ذلك الزمن القريب كانت قنوات الثقافة محدودة جدا ومنحصرة في الكتب والمجلات والإذاعة والتلفزة إلى حد ما . وحتى المجلات كان تعاني من مشكلات التوزيع والوصول إلى مختلف شرائح المجتمع العربي . وقرأنا في مذكرات بعض الأدباء والرحالة أنهم كانوا يقطعون الفيافي من أجل الاطلاع على دراسة في مجلة أدبية أو ثقافية في شرق العالم العربي أو غربه . ولذلك فقد كانت المجلات الثقافية تعيش آنذاك عصرها الذهبي وكان عدد منها ينفذ من الأسواق فور صدوره ، وكانت تستقطب أفضل الأقلام الفكرية والثقافية في العالم العربي لأنها تعكس بالضرورة هوية الدولة التي تصدرها ومستوى اهتمامها وشعبها بالفكر والثقافة .

فمجلة العربي ( مثلا ) وهي المجلة الثقافية الرائدة التي ساهمت في إبراز عدد من المفكرين كما ساهمت في صنع عدد منهم أعطت للثقافة طعما لذيذا بأسلوب راق وطريقة إخراج وطباعة جذابين ، كما دشنت في مختلف مراحل صدورها عهودا زاهية من الفكر والثقافة يحتفي بها المثقفون . ولم تك تخلو مكتبة منزلية من هذه المجلة التي كان يفخر الجميع باقتنائها وسرد مضامينها لأقرانه ، تماما كما يفعل البعض اليوم عندما يحاول أن يفتخر بآيفون6 أو جالاكسي نوت أو آيباد . وكان غاية حلم المثقف العربي في فترة ما أن ينشر له مقال في هذه المجلة ويعتبر ذلك وسام شرف له ولسجله الأدبي . ولا عجب في ذلك وقد كتب فيها عمالقة الأدب العربي مثل طه حسين ، وعباس محمود العقاد ، ونجيب محفوظ ، ويوسف إدريس ، ونزار قباني وغيرهم . ولا تزال ( مجلة العربي ) من المجلات العربية القليلة التي تشعر بعد قراءتها أنك أضفت إلى مخزونك الثقافي والفكري الشيء الكثير .

وكما كان يقال سابقا إنه ( لو خيرت بريطانيا العظمى بين شكسبير ومستعمراتها الهندية ، لما عدت الأولى ) ، فإن مثقفو الكويت قد لا يختارون على مجلة العربي شيء لو خيروا بينها وبين حقل برقان النفطي . ولذلك فإن المجلة العريقة التي تتصدر رفوف المكتبات لم تتوقف إلا فترة قصيرة أثناء الغزو العراقي للكويت .

محطات فارقة في مسيرة المجلة :

تميز الدكتور زكي أحمد ( وهو أول رئيس تحرير للمجلة ) بمقومات أفضل رئيس تحرير واستطاع بقدراته أن يبز نظراءه بفارق كبير بينه وبينهم ، واستطاع أن ينقل الكويت ( قبل الاستقلال ) إلى مصاف الدول الناضجة ، كون الواقع الثقافي يعكس مدى النضج السياسي وعمق الاستقرار في أي بلد . وشعر جميع متابعي المجلة بالصدمة عندما توفي في العام 1975 ، رغم محاولات الأستاذ أحمد بهاء الدين تعويض ذلك . وقد تناوب على رئاسة تحريرها خمسة هم : د. زكي أحمد ، أحمد بهاء الدين ، د. محمد غانم الرميحي ، د. سليمان العسكري ، د. عادل سالم العبدالجادر ، أول أثنين كانا من مصر قبل أن  يتولى رئاسة تحريرها كويتيون .

وقد ساهم في استقرار العربي كمجلة ثابتة الأركان لم تتأثر بأي هزات سياسية أو اقتصادية صدورها عن وزارة الإعلام الكويتية . فرغم أن المجلة كانت ولا تزال ( شهرية ثقافية ) بالدرجة الأولى كما يكتب على صفحتها الأولى ، إلا أنها كانت لا تخل من رائحة سياسية ، خاصة في ( حديث الشهر ) الذي يكتبه رئيس التحرير . وبطبيعة بانتماء المجلة ( تصدرها وزارة الإعلام بدولة الكويت ) ، فإنها تلتزم بالخطوط العامة لسياسة دولة الكويت ، ولا يتوقع أحد أن تتبنى آراء متباينة مع ذلك . ومما تحسد عليه المجلة أنه ومنذ صدورها في العام 1958م وحتى اليوم لم يظهر تغيير صارخ على شكلها الخارجي أو مقاس طباعتها ، وكانت تتبنى دائما أفضل أنواع الورق في زمن صدورها . وربما أراد بعض رؤساء تحريرها طرح أفكار لا تتطابق والرؤية الرسمية للدولة ، لكن ذلك لا يمكن أن يستمر في ظل التمويل الكامل للمجلة من وزارة إعلام الكويت . وللحقيقة ما كان يمكن للمجلة أن تستمر في الصدور والتألق بدون الدعم الحكومي الذي أسس لاستقرارها وثباتها طوال العقود الماضية .

وهكذا تأثرت المجلة صعودا وهبوطا بتغيير رئيس تحريرها ، كما تأثرت بالغزو العراقي للكويت ، وأصاب المجلة بعض الفتور في مبيعاتها مع انتشار تقنية مواقع الإنترنت ، حيث إن الكثيرين صاروا يقرأون أكثر مقالاتها على النت بدلا من شرائها من الأسواق رغم أن أعداد طباعتها وصلت إلى 250 ألف نسخة شهريا . واستنفذت الأجهزة الحديثة أوقات الشباب الذين كانوا يترقبونها في حقبة ما ليتحولوا إلى متابعة أمور أخرى يحسبونها أكثر أهمية أو أكثر جاذبية من مجلة ثقافية يرونها كئيبة . وكانت المجلة للحق غالبا ما تحاول مواكبة التطورات التكنولوجية أو حتى العلمية ..  فإضافة إلى المجلة الأم هناك العربي الصغير ، والعربي العلمي ، وكتاب العربي وبث فضائي ، كما عقدت عدة ندوات علمية وفكرية ثقافية داخل وخارج الكويت . ولا يزال لدى الكثير من الأدباء والمثقفين العرب حنين وتوق لهذه المجلة التي تمثل نموذجا متألقا للمجلة الناجحة والتي استطاعت الصمود في وجه مختلف أعاصير السياسة والثقافة والتقنية .

المجلة العربية – 11 أكتوبر 2015م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق