الجغرافيا، والتعايش

يوسف أحمد الحسن 

للجغرافيا خصوصية مميزة فيما يتعلق بالتعايش؛ كونها تعني هنا العيش في وطن واحد يظلِّل على الجميع، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، كما تعني فيما تعنيه أن تكون المواطنة الميزان الأساس لمن يعيش فيه، لذا فإنه وفي ظل التعايش ينبغي أن تتوارى جميع العناوين الأخرى دينية كانت أو مذهبية أو أيديولوجية أو فكرية؛ لتبقى عنوانًا واحدًا وهو الوطن والمواطنة، وما يستتبعه ذلك من خضوع الجميع لحكم القانون.

ومن الأمور الهامة التي ينبغي أن تحكم هذه القيمة الحضارية هو تقنينها بمجموعة من التشريعات التي تصون بقاءها واستمراريتها، ذلك أنه وحسب التجارب البشرية في مختلف مناطق العالم، يتبين أن الناس يميلون إلى عدم الالتزام بأي سلوك جديد ما لم تكن في مقابله قوانين للثواب والعقاب، وبالتأكيد هنا لا يمكن أن يقوم التعايش الوطني على القوة والإجبار والقسر، بل يجب أن يكون نابعًا عن قناعات راسخة لدى أبناء الوطن بالتعايش مهما اختلفوا في مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية وهو ما يجب أن تسبقه توعية على مختلف الصعد وبمختلف المستويات؛ من أجل ترسيخ مفهوم التعايش لدى المواطنين بمختلف أعمارهم، بل إنَّه من الحري بالمواطنين أن يصلوا إلى قناعة بأن يبادروا إلى التفاخر بتنوع أطيافهم وتوجُّهاتهم، وأن يعدوه مصدر قوة ومنعة لهم كما هو الحال في الدول المتقدمة.

إنَّ الخيار الآخر لإعلاء قيمة المواطنة هو الانقسام والتشظِّي والضعف والوهن الذي قد يصيب الوطن، وأي تصنيف داخل الوطن قائم على أساس أيديولوجي لا ينتج إلا مزيدًا من التشبُّث بالخصوصية الأيديولوجية وذلك على حساب القيمة العليا المفترضة وهي المواطنة.

وفي المقابل، فإنَّ على كل طيف فكري أو أيديولوجي في الوطن أن يكون عنوانه الأساس هو الوطن والمواطنة، وليس عناوينه الجانبية الخاصة؛ لأنَّ الوطن هو الانتماء الأساس وليس تلك العناوين.

وحتى يكون التعايش خبزًا يوميًّا للمواطن السعودي الذي يصادف كل يوم مقيمين من أديان متنوعة في ظل وجود ملايين المقيمين في المملكة من مختلف دول العالم بالإضافة إلى التنوع الداخلي، فلا بدَّ له من معرفة حتمية وضرورة التعايش، وهو ما يحتاج إلى مران اجتماعي طويل على ذلك يبدأ من المناهج ولا ينتهي بوسائل الإعلام مرورًا بقوانين تحافظ على قطار التعايش في سكة الوطن، وتردع من يحاول أن يخرجه منها.

وما يعزِّز من حالة التعايش المنشودة هو ذاته ما حصل في صدر الإسلام حيث لم تغرهم قوَّة المسلمين في المدينة بالتنمُّر على ضعافها، ولم تمنعهم كذلك من إرسال المساعدات إلى أعدائهم في مكة قبل فتحها عندما أصابتهم مجاعة، كما أن الكثرة العددية في المفهوم الإسلامي لا تغير من القناعة بضرورة التعايش، ولا تحرف بوصلة الصراع، كما لا تبدِّل من نمط التعامل مع الآخر، ولا يجب أن تدفع نحو قسر الآخرين على اعتناق ما لا يرغبون فيه أو الضغط عليهم لتغيير قناعاتهم، حيث التعايش هو قبول الآخر المختلف بما هو، وكما هو.